كلمة العدد  

إسرائيل تُعَرْبِد ، و أمريكا تُحَرِّش ، و العالم يَتَفَرَّجُ ، و نحن نَتَعَامَىٰ

 

 

 

 

 

       إسرائيل مُوغِلة في توسيع دائرة عدوانها الذي لا ترى له سقفًا في ظل السياسات الدولية المتهاونة بل المتواطئة والمتعاطفة معها ؛ فقد مارست مجددًا ولاتزال العربدة الإرهابية منذ أوائل جمادى الأخرى 1427هـ / أواخر يونيو 2006م ، وشنَّت منذ فجر الأربعاء : غرّة جمادى الأخرى 28/يونيو الهجومَ العشوائي على قطاع غزة برًّا وجوًّا ، تسحق الفلسطينيين بالدبابات والمدفعيات، وتقصفهم بالقنابل والقذائف والصواريخ ، وتُدَمِّر بناهم التحتيه ، ومنشآتهم الحيوية ، ووسائلهم الحياتية – بما فيها محطات الوقود ، ومحطات الكهرباء ، والجسور والطرق، ومباني المكاتب الوزارية ، والأهداف المدنية ومؤسسات الدولة والمنازل والمدارس – وتخطف الوزراء والمسؤولين الفلسطينيين ؛ فقد خطفت تحت خطّة مُبَيَّتَة مالايقلّ عن 64 وزيرًا ونائبًا ورئيس بلدية ومسؤولاً آخر في حماس ، في حين اعتقلت نحو ثلاثين ناشطاً فيها . وقتلت لحد كتابة هذه السطور (يوم الثلاثاء : 14/جمادى الأخرى 1427هـ = 11/يوليو 2006م) مالايقلّ عن مئة وأربعين فلسطينيًا بمن فيهم النساء والأطفال والشيوخ والشباب الغرّ والطفلة التي لم تتجاوز 6 سنوات من عمرها . وقد صرّح رئيس وزراء الدولة الصهيونية أمس ، أي يوم الاثنين 13/ جمادى الأخرى 1427هـ = 10/ يوليو 2006م أنه لن يوقف الهجوم العسكريّ على الفلسطينيين ، وأنه قد سمح لجيشه أن تواصل اعتداءاته عليهم لأجل غير مسمى حتى يتم حرير جنديّه «المخطوف» – كما تصفه وسائل الإعلام اليهودية والغربية ووسائل الإعلام العربية المُقَلِّدة ؛ و«الأسير» كما تصفه المصادر الفلسطينية ولاسيما مصادر حماس – بيد جناح من أجنحة حماس . وقد حذّرت المنظمات الإغاثية بما فيها منسق شؤون الإغاثة بالأمم المتحدة من أزمة إنسانية مدمرة إذا لم تمتنع إسرائيل عن ممارسة اعتداءاتها العشوائية وسياساتها العدوانية ، من التجويع والتعطيش ، وتجريد المنطقة من الوسائل اللازمة للحياة .

       وأكّدت وسائل الإعلام أن عدوان إسرائيل على غزة ، مُتَّخِذَةً أَسْرَ حماس للجندي الإسرائيلي ، مُبَرِّرًا له ، إنما كان أصلاً لكسر إرادة الشعب الفلسطيني وإيهام الرأي العالمي أن المقاومة الفلسطينية عادت عاجزةً بل عقيمةً عديمةَ الجدوى . كان ذلك هو الهدف الحقيقي لدى إسرائيل التي تَخَفَّتْ خلف حادث الأسر وغيره وجعلته حجةً . وصَرَّحت بذلك مصادر إسرائيلية مسؤولة بدورها ، وكشفت أن أوامر اعتقال وزراء ونواب وكبار المسؤولين في حماس خُطِّطَ لها قبل عدّة أسابيع ، وكان قد صَادَقَ عليها المستشارُ القضائي للحكومة الإسرائيلية «ميني مزوز» كما أنّ رئيس جهاز الأمن العامّ الإسرائيلي «الشاباك» المدعو بـ«يوفال ديسكين» عَرَضَ على رئيس الوزراء الصهيوني «إيهود أولمرت» قائمةَ (المطلوبين) من حكومة حماس ، ليُصَادِق عليها . وكان قد صادق عليها . ذكرت ذلك مصادر في وزارة القضاء الإسرائيلية يوم الخميس : 29/يونيو 2006م = 2/جمادى الأخرى 1427هـ . وإسرائيل تستعد لمحاكمتهم محاكمة جنائية على أساس أنهم إرهابيون !.

       وكذلك أكّدت وسائل الإعلام أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة جاء نابعًا من الموقف الإسرائيلي من حركة «حماس» ومن محاولة إسرائيل لإفشالها ، وإنزالها من الحكم وإدارة السلطة ، وفرض إرادتها السياسيّة والأمنية على الشعب الفلسطيني ؛ تَنَاقَلَت – وسائل الإعلام – ما قالته وزيرةُ التعليم الصهيونيةُ «يولي تامير» : «إن تل أبيب تريد إقناعَ الفلسطينيين أنهم يخطئون خطأً كبيرًا باعتمادهم على حركة حماس وعلى نهجها في التعاطى مع إسرائيل» . ونفثت الوزيرة غضبها الشديد وكراهيتَها المتناهيةَ ضد حماس قائلةً: «الويل لنا إن سمحنا لحركة حماس أن تنجح في هذه المواجهة . الويلُ لنا لو قمنا بالإفراج عن أسرى فلسطينيين بناءً على إملاءات تحاول حركة حماس فرضَها علينا . إن هذه هي الوصفة الأكيدة لسقوط ما تبقّى من عاملِ ردع لإسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية» . وصَرَّح وزير الداخلية الصهيوني «روني بارعون» بأن الهجوم العسكري الصهيوني الأخير على غزة يهدف إلى تعجيز حماس وتركيع الشعب الفلسطيني انتقامًا منه لأنه قد عاد يبالغ في إحسان الظن بـ«حماسه» فقد قال: «إن الحملة العسكرية تهدف للتأثير على النظام السياسي الفلسطيني، وتغيير موازين القوى في الساحة الفلسطينية ، ودفع الرأي العام الفلسطيني إلى سحب ثقته بحماس» . وكذلك فرئيس جهاز المخابرات الصهيونية الداخلية (الشاباك) المدعو بـ «يوفال ديسكين» يوصي حكومته قائلاً : «لابدّ لحكومتنا أن تستغلّ العملية العسكريّة من أجل إحداث تغيير استراتيجي في المنطقة بأسرها».

       إنّ العدوّ الإسرائيلي الآن يبدو واضحًا أنه قد جُنَّ جنونُه ، ويتصرّف تمامًا كالفاقد الوعي؛ ولكن الغريب أنه لم يتلقَّ أيَّ درس من الماضي الذي حَفَلَ بمواقف الفشل التي لاتُحْصَىٰ؛ فإنّ العمليّة العسكريّة لم تغنِه قط غناءً ، ولم تساعده على تحقيق الأهداف السياسية التي توخّاها من ورائها . وقد كان من أهدافه بل على رأسها دائمًا تصفيةُ حماس؛ ومنعُها من إطلاق الصواريخ إلى المستوطنات الإسرائيلية والأهداف المنشودة في عمق الأراضي المحتلة ؛ وبثُّ الخوف والذعر في قلوب رجال المقاومة ؛ وإرغامُها على التراجع . وعلى العكس من ذلك ظلت المقاومة صلبةَ القناة، عازمةً صامدةً ، ماضيةً قدمًا في سبيل زرع الخوف في قلوب العدوّ ؛ وتنفيذ سياسة انتزاع الأمان منه .

       هَجَمَ العدوّ بآلاته الحربية المتطورة أمريكية الصنع على قطاع غزة باسم «أمطار الصيف». وهجومُه لايقتصر على نُشَطَاء حماس وإنّما يطال الشعبَ الفلسطينيَّ من غير استثناء ، بحثًا عن جندي إسرائيليّ عاديّ واحد اسمه «جلعاد شليط» (19 عامًا) وفكّ أسره ، وكأنّ القانون الدوليّ – الذي ظلّ يضربه عُرْضَ الحائط – يسمح له أن يشنّ هجومًا شاملاً على شعب بأسره ، ويُقَتِّله تقتيلاً ، ويدمّر بناه التحتية ، ومُنْشَآته الحيوية ، ومُؤَسَّسَاته الحكومية ، ومنازله السكنية ، ووسائله الحياتية ، ويمنع عنه جميعَ الوسائل التي لابدّ منها للإبقاء على الحياة ، من ماء ودواء، وغذاء وكهرباء ؛ بتنفيذ سياسته التقليدية من التعطيش والتجويع ، والتعرية والتشميش ، والتقتيل الأعمى ، والتعذيب الوحشي ، والتخويف والتذعير .

       فهل ينجح هذا العدوُّ الماكر هذه المرة في تحقيق أغراضه بالسياسة الحربية والتخويفية والتعذيبية؟. إنه قد ينجح في قتل الأجسام ، ولكنّه لن ينجح في قتل الأرواح . إنّه يستطيع أن يُنَفِّذ سياسةَ التعذيب بأنواعه ؛ ولكنّه لن يقدر على قهر إرادة الشعب الفلسطيني الذي ربّاها منذ أكثر من ستين عامًا في ظلال السيوف والسنان ، والحرب والضرب ، والقهر والبطش ، والتشريد والجلاء، والجوع والعطش ، والحرمان من جميع مقومات الحياة ، وصور الإذلال والإهانة الصارخة الألوان. لقد حارب العدوُّ – ولازال – هذا الشعبَ الأبيَّ الغيورَ ذا الإرادة الثابتة الصمّاء، بالأسلحة الفتاكة ذات المنشأ الأمريكيّ الغربيّ ، فقتل كثيرًا من شبابه وشيوخه ، وسلبه قُوْتَه ، والثياب التي تقيه الحرَّ والقرَّ ، ودَمَّر عليه بيوته التي تؤويه ؛ ولكنه لم يستطع – ولن يستطيع – أن ينزع منه أقوى سلاح دائمًا ، وأمضى سلاح في كل معركة من معارك الحياة يكون الانتصار النهائيّ الحاسم فيها نصيبَ من يملكه ، سلاح لايُنْتِجُه الشرقُ ، ولا يصنعه الغربُ ، ولايعرف تكنولوجياه أيُّ علم حديث ، ولن تتوصّل إلى صناعته أمريكا المُتَكَبِّرة المُتَفَرْعِنَة الواقفة بجانب العدو الإسرائيلي الوقفةَ المتّصلةَ ، ولن يَهتدي إلى «موادّه الخام» العدوُّ ولا أيٌّ من الدول التي تُسَانِده . ألا وهو سلاحُ العقيدة الراسخة ، والإيمان الثابت ، والإرادة التي لاتُقْهَر ، والعزيمة التي لاتُهْزَم ، والمرابطة التي لاتُزَال ، والصمود الذي لايعرف التزعزعَ . إنّ هذا السلاح لايُصْنَعُ إلاّ في قلب أمة محمد ، ولايعرف استخدامَه إلاّ المؤمنون المُتْقِنُون لصناعة الموت ، ولايُحْسِنُ التعاطيَ معه أيٌّ من الكَفَرَة الفَجَرَة من الصهاينة والصليبيين والوثنيين بجميع فصائلهم وعشائرهم ، وبَيْضهم وأفراخهم .

       إنّ الصهاينة والصليبيين وجميعَ الوثنيين لايعرفون فلسفةَ الحياة لدى أمة محمد وأتباع الصحابة رضي الله عنهم . إنّ الحياةَ الكريمةَ العزيزةَ اللذيدةَ عند المؤمن الصادق، إنما هي التي تذوق الموتَ في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ ويسعد صاحبُها بالاستشهاد من أجل إعلاء كلمة الله وإحقاق الحق وإبطال الباطل . إن المؤمن لايعتبر الاستشهادَ موتًا ونهايةً للحياة ، وإنما يعتبره حياةً أبديةً دائمةً لاتنتهي مهما انتهت الدنيا . الإيمانُ لايهب المؤمنَ الحريةَ والعزةَ الحقيقيّة المُخَصَّصَة للمؤمن مالم يعانق الموتَ في سبيل الله الذي خلقَ الموتَ والحياةَ ليبلو أفرادَ الجنس البشري أيهم أحسن عملاً . إنّ المؤمن لكي يستكملَ إيمانَه لابدّ أن يكون مُتْقِنًا لصناعة الموت في سبيل الذي وَهَبَ له الحياةَ . وقد كان الصحابة على قمة المُتْقِنِين لهذه الصناعة ، وكان على هذا المستوى جميعُ الذين اتّبعوهم بإحسان . وقد دَرَجَ منهم قطاعٌ عريضٌ كان يخافه الموتُ ؛ فلو لاَقَاهُ في مَأْزَق من الحرب وَقَفَ أَخْرَقَ يَتَّهِم الإقدامَ والهَربَ .

       الشعب الفلسطينيُّ السعيدُ بالإيمان بالله العظيم ، وبالمرابطةِ في الأرض المباركة منذ أكثر من ستين عامًا ، صامدًا في وجه العدوّ الأفّاق الوافد الدخيل الذي يكاد يُدَنِّس كل شبر منها ؛ مُسْتَظِلاًّ بالشمس ؛ مُتَغَذِّيًا بالجوع ؛ مُتَرَوِّيًا بالعطش ؛ مُفْتَرِشًا بالغبراء ، مُسْتَسْقِفًا بالسماء ؛ مُسْتَغْنِيًا بفقر الوسائل ؛ مستشفيًا بالأدواء ؛ مستريحًا بالمعاناة ؛ مُسْتَعْذِبًا العَذَابَ ؛ مُسْتَسْكِنًا بالمنافي .. ظلّ يُسَطِّر أروعَ البطولات ، ويُقَدِّم أغلى التضحيات ؛ ففي كل يوم تَجْمُلُ الصورةُ، وتَتَألَّقُ السيرةُ ، ويَعْظُم العطاءُ ، وتَتَبَلْوَرُ أسطورةٌ أبديةٌ على أرض الوطن الغالي والتراب المقدس : أرضِ الأنبياء والإسراء والمعراج ، وإحدى القبلات الثلاث . الحكامُ العربُ والقادةُ المسلمون تَخَاذَلُوا في الأغلب ، والعالمُ المتنوّرُ المتحضِّرُ المُتَبَنِّي للديموقراطيّة المزعومة تَعَامَىٰ عن معاناة الشعب الفلسطيني ، والقوى المستبدةُ بالوصاية على العالم انحازت لإسرائيل قائلةً : إنّ لها أن تُدَافِع نفسها ، واعتبرت عمليّةَ الدفاع الفلسطينية المتواضعةَ غير المتكافئةَ على جميع المستويات وبكل الاعتبارات «إرهابًا» جديرًا بالاستنكار والمقاومة والحظر؛ فلم تستمع لصراخ الشعب الفلسطيني وعويله ، وصوت حزنه وتأوّهه ، ووَلْوَلَة صبيته وعجائزه ؛ ولكن السماء سَجَّلَتْ كلَّ موقف من مواقف كآبته وبؤسه ، وألمه ومعاناته ؛ وخريرُ دمائه شَقَّ – ولايزال – يشقُّ السماءَ . إنّ صوتَ عصافير الانتفاضة الباسلة فُتِحَ له كل باب من أبواب السماء الذي ينفتح لصوت الملهوفين والمظلومين ، والمسحوقين والمستغيثين ، مهما أعمتِ الدعايةُ الصهيونيةُ الأمريكيةُ كلَّ قلب مظلم في العالم ، الدعاية التي تصف الدفاعَ الفلسطينيَّ المشروعَ عن الأرض والعرض والحق بالإرهاب .

       إنّ هذا الشعب ذاق من الظلم الطويل والعدوان «المتعدد الجنسيات» مالم يذقه شعب على وجه المعمورة . وأثبت بروحه الوثـّابة ، وكفاحه المتصل ، وصموده في وجه العدوان الهمجيّ عظمتَه وكبرياءَه . الشعب الفلسطيني الذي لم يركع أمام الآلات الحربية الجهنميّة واستقبلها دائمًا بصدره أثبت انه شعب مُعْجِزٌ بتركيبته الإيمانية التي تضاءلت أمامها جميعُ فنون الصلف الإسرائيلي والعنجهيّة الصهيونية والحقد الصليبي ، التي اصطلحت على كسر إراداته ، فلم تزده إلاّ إصرارًا على الحق ، وصلابة في الموقف ، وثباتًا على المبدأ ، رغم جميع المجازر اليومية أوشبه اليومية المتصلة منذ أكثر من نصف قرن .

       الشعب الذي لايجد بوسعه إلاّ خيارَ المقاومة بأحساده العارية وبأيديه التي لاتنال إلاّ الحجارة التي تنطق فيها نطقَها في أيدي سلفه الصحابة وسيدهم ونبيهم محمد ، وإلاّ بعضَ العبوات الناسفة التي يصنعها بنفسه ، وإلاّ بعضَ الصواريخ القصيرة المدى باسم «صواريخ القسام» وإلاّ عظامَ أطفاله الأبرياء ، التي يقي بها حرمةَ الأرض والعرض والقدس . عملياتُ الاعتقال والحصار، والتهديم والتجريف ، والاغتيال والتشريد، وتفتيش البيوت والسكك ، اليوميّة والمفاجئة لم تفتَّ في عضده ولم تهزم عزيمته ، ولم تجعله يخلد إلى الياس والإحباط ، والصراخ والعـويل . وإنما دَفَعَتْـــه للعمــل والنضال ، وحَكِّ جلدِه بظفره ، حين تَقَاعَسَ عنه العالم ، وتَقَاعَسَ عنه الحكوماتُ العربيةُ والإسلاميةُ ذاتُ الدعاوي الفارغة والأقاويل العريضة .

       لازال – ولايزال – هذا الشعب الأبيّ الغيور الذي كُتِبَتْ له سعادةُ المرابطة في أرض النبوات والرسالات يصنع التأريخ بكل موقف من مواقفه. والآن عاكف على صنع تاريخ آخر بصموده أما العدوان الإسرائيلي الأمريكي الذي أراد أن يثأر منه لأنّه مَارَسَ خيارَه ، وصَوَّت لصالح حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة ، وجعلها تصل إلى كرسيّ الحكم ؛ لأنّها عند إسرائيل والبيت الأبيض – الأسود في الواقع – منظمة إرهابيّة ، لأن دفاعَ العرب والمسلمين عن أرضهم وعرضهم ونفوسهم إرهاب عندهما . أما دفاعُ غيرهم عن وطنهم فليس إرهابًا !!.

       إسرائيل لها كل الخيار في اغتيال الفلسطينيين متى شاءت ، ولها الحق المطلق في شن الهجوم العسكري عليهم كيف ما شاءت ، ولها السماح بكل الأفاعيل التي تفعلها مع الشباب الفلسطيني والسيدات الفلسطينيات ، ولها الإذن لأن تتوسع وتتوغّل وتقيم مستوطنات بطريقة غير شرعيّة .. إن هذا الخيار وهذا الحقّ ممنوحان لها من قبل أمريكا سيدة العالم المتحكمة اليوم في مصير الأمم والشعوب ، ومن قبل الغرب والمجتمع الدولي المزعوم وممثلته الأمم المتحدة التي «خُلِقَتْ» صماء بكماء في شأن الحق الفلسطيني المدوس والحرمة الإسلامية المهانة ؛ فمهما مارست – إسرائيل – الاعتداء والعدوان ، فهي تمارس حقَّ الدفاع عن نفسها وحق صيانتها ، وإن دافعت الجماعات الفلسطينية عن الشعب الفلسطيني ، فذلك إرهاب ، لابد أن تُعَاقَبَ هي عليه ويُعَاقَبَ معها الشعب الفلسطيني كلُّه ؛ لأنّ المُدَافِع والمُدَافَعَ عنه كلاهمان مذنبان ؛ لأنهما من أرومة واحدة !.

       ولاغرو فإن زرع الكيان الصهيوني في قلب الأرض العربية الإسلامية ، كان عمليةً غاشمةً مائة في المائة من قبل أمريكا وبريطانيا والغرب والمجتمع الدوليّ ، عمليّة عدوانية لايماثلها في التأريخ البشري إلاّ بعض العمليات المعدودة على الأصابع . ولكي يثبت أمريكا والغرب عدالةَ هذا العدوان السافر وكونه حقًّا من الحقوق المشروعة، سيظلاّن يمارسان العدوان تلو العدوان، وأقلُّه التأييد المطلق المتصل لإسرائيل في ممارستها لعدوانها عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا .

       ولكن الذي تَرَكَ العالمَ كلَّه – بما فيه العدوّ والصديق – حيرانَ هو سكوت العالم العربي والعالم الإسلامي على صعيد الحكومات والقادة والحكام والمسؤولين ، سكوتًا مطبقًا تجاه هذه المجازر الطازجة التي تمارسها إسرائيل متحديةً الرأيَ العالميّ والضمير الإنسانيّ . قد يُعْقَلُ سكوتُ المجتمع الدولي المنافق – الذي يقيم الدنيا لأمر تافه فلا يقعده إذا كان الضحية غير المسلم وغير العرب ولاسيما الصهيوني أو المسيحي – تجاهَ هذا العدوان الصارخ ضدّ الشعب الذي يُسَامُ العذابَ منذ نحو ستين عامًا ؛ لأن المسلمين قوم غير جديرين بالرحمة وبالإنصاف !

       ولكن لايُعْقَلُ – ولن يُعْقَلَ – سكوت العالم العربي – الذي تُعَدُّ فلسطين جزءًا منه لاينفكّ – ولايُعْقَل سكوت العالم الإسلامي الذي يجب عليه تحرير فلسطين وجوبَه على العرب ، لأنها أرض النبوات ، ولأنها أرض القبلة الأولى ؛ ولأنها أرض الإسراء والمعراج ، ولأنها أرض المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله . إن موقف القادة المسلمين والعرب يوهم بل يؤكّد أنهم تَخَلَّوْا عن المسؤولية ، وتركوا الفلسطينيين ليذوقوا «وبال كونهم أصحابَ الدار» وحدهم ، فلا ناصر لهم إلاّ الله ، ولا واقف بجانبهم إلاّ رحمتُه ، وثقتهم بتأييده للمظلومين ولو بعد حين .

       إن لكل ليل صباحًا ، وسينبلج هذا الصباح مهما طال الليل . إن الفلسطينيين المرابطين على الثغر الإسلامي المقدس يؤمنون بأن الصباح السافر سيطلع متفجرًا من هذا الليل البهيم للظلم والعدوان؛ لكن القادة والساسة المؤمنين بـ«ألوهية أمريكا» والمعتقدين بأنّ كراسيّهم مدينة لها ، والذين أصبحت السلطة والحكم – اللذان لن يدوما – أقدس شيء لديهم يجوز التضحية في سبيله بكل غال ورخيص وبكل نفس ونفيس ، لايتحرك فيهم ساكن ، ولايذوب منهم جامد؛ فلا ينهض فيهم ولا رجل مثل فيصل بن عبد العزيز الشهيد (1324–1395هـ = 1906–1975م) فضلاً عن صلاح الدين الأيوبي (يوسف بن أيوب بن شاذي 532-589هـ = 1137-1193م) فقد فارت دماؤه في عروقه تجاه الغطرسة الأمريكية المتناهية ؛ ومهما لم يكسب المعركةَ مع أمريكا ؛ ولكنه ضحّى بنفسه في سبيل الانتصار للغيرة الإيمانية والحمية العربيّة؛ فأصبح أحي عند الله وعند الخلق من الحيّ الذي يمشي بقدميه . أمّا القادة الذين مُنِينَا بهم يبدو كأنه ماتت فيهم كلُّ ذرة من الغيرة الدينية ، وفقدت ضمائرهم كلَّ شيء اسمه الروح ؛ فيسودهم سكون المقابر، ولايوجد فيهم داعٍ ولامجيب كمعشر الموتى الذين لايَسمعون ولايُسمعون !.

       إنّ الحيات والسباع لا تتناهى عن اللدغ والضراوة ؛ لأنَّ الطباعَ لن تتغيّر مهما تغيّرت الجبال ، ووَقَعَ المحال ؛ فمن غير المعقول أن نترجّى منها – الحيات والسباع – الرأفة والتعامل بالخلق الإنسانيّ . فليؤد الإنسانُ – المسلمون – مسؤوليتَه وليكن على مستوى القيام بها . إنّ القوى العدوانيّة التي أسكنت إسرائيلَ بأرضنا بالقوة والاغتصاب والسلب ، لن تتعاطى معنا بالعدل والإنصاف ؛ فرجاؤنا منها أنها تمارس العدل كرجائنا من النار أنها تهب الماء ، ومن الماء أنه يهب النار. لقد تَعَرَّتْ جميعُ الاتفاقات والتعهدات التي أُبْرِمَت مع إسرائيل منذ يومها الأول لحدّ اليوم ، فلم تغيّر الواقعَ ، ولم تنفع العربَ ، ولم تُعِد إلى الفلسطينيين حقَّهم ؛ من هنا آمنت حماس وأمثالُها من منظمات المقاومة الباسلة أن صبح التحرير لايُطْلعه إلاّ الجهاد والمقاومة الصادقة الصامدة التي يسبقها تربيةُ الإيمان والحرصُ على التهالك على الحق أكثر من حرص ذوي الباطل على باطلهم . وبالتالي إلى إعداد القوة المرهبة لأعداء الله ورسوله التي أَمَرَنا بإعدادها الله تعالى في كتابه الخالد . وهذا الإعدادُ لن يسمحَ به لنا أمريكا وإسرائيلُ والغربُ والقوى الوثنية كلُّها في هذه المرحلة من تاريخ الصراع بين الإسلام والصليبية والصهيونية المُمَدَّة من قبل القوى الوثنية بأشكالها – وقد كان الواجب علينا أن نهتم به منذ اليوم الأوّل ولانتغافل عنه في أي فترة من فترات التقدم والتأخر، اللذين مررنا بهما حسب سنة الله – ولكن لايجوز أن نتنازل عنه مهما كانت الظروف عصيبةً ؛ لأن الله أقوى من كل قوة على وجه الأرض ، ومن كل دولة في الكون ، ولن تغلبه أمريكا ولابريطانيا ولا إسرائيلُ ولا أيُّ الدول المالكة لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن المزعوم . ولنا درسٌ حيّ في بعض الدول الصغيرة التي صمدت في وجه أمريكا وجميع الدول ذات الخيار في اتخاذ القرار في القضايا العالميّة ، وصارت صداعًا للجميع بكيانها الصغير ، حتى تَحدَّت أمريكا قائلةً : سنردّ بالسيف على سكين العدوّ وبالمدفع على مسدسه . وهي كوريا الشمالية التي صارت عظمًا في حلقوم أمريكا التي لاتقدر على ابتلاعه ولا لفظه .

       إن الفلسطينيين سينصرهم الله بالتأكيد، لكن ربّهم وربّ فلسطين والأقصى سيحاسبنا يومَ الحساب ، ويؤاخذنا على موقفنا المتخاذل ، ونيتنا المشبوهة ، وتقاعسنا عن الوقوف بجانب الإخوة ، وعن الاستماتة في سبيل استعادة التراب المقدس ، وعن رفع الظلم عن المظلومين المهانين منذ السنوات الطويلة . إننا مُطَالَبون أن نكون على مستوى إيماننا ، وأن نؤدي سهمنا الإيماني، وإلاّ فلن نتجنب عقابَ الله يومَ لاينفعنا «شفاعةُ» أمريكا ومخافةُ إسرائيل ونفاقُ المجتمع الدوليّ .

       تخطّت أمريكا كلَّ الحدود في مساندة إسرائيل في عدوانها الأخير، فلم تكتفِ بتأييدها بالتصريحات التي مؤدّاها إن إسرائيل لها حق الدفاع عن نفسها وأن حماس يجب أن تتخلّى عن الإرهاب وأن تطلق سراحَ الجندي الإسرائيلي دونما مقابل من قبل إسرائيل ؛ بل مارست حقَّ النقض كالعادة ضدّ مشروع قرار التنديد بعدوان إسرائيل المطروح في مجلس الأمن . والجدير بالذكر أنّ أمريكا كانت وحيدةً من بين الدول الأعضاء (15) في مجلس الأمن ، صَوَّتت لصالح إسرائيل . إنّ العدوان الإسرائيلي مُمَدٌّ في الواقع بشكل دائم من قبل أمريكا ؛ بل أمريكا هي التي تمارس العدوانَ مع الفلسطينيين وكل العرب وجميع المسلمين في كل مكان .

       والعجيبُ في الأمر موقفُ الرئيس المصري العلمانيّ الموالي ولاءً فاضحًا لأمريكا وإسرائيل وزمرته من المسؤولين المصريين العلمانيين المتغربين الذين تعوّدوا تبيّنَ الأمر ضحى الغد . إن مصر هي الفريسة الأولى لإسرائيل بعد التغلب على الفلسطينيين والقوى الفلسطينية المقاومة وبعد إجهاز القضية الفلسطينية ؛ لكن القادة المصريين يتعامَون الآن عن حقيقة الأمر ، ولا يأخذونها مأذخ الجدّ ، ولايدافعون عن أنفسهم الخطر الذي يحدق بهم ؛ لأن أمريكا تضرب على آذانهم بشكل تتقنه بشأن جميع أوليائها وعملائها في ديارنا.

*  *  *

       ولم تكتف إسرائيل بالعدوان على غزة ، وإنما شنّت عدوانها منذ ليلة 12-13 يوليو 2006م (الأربعاء – الخميس : 15-16 جمادى الآخرة 1427هـ) على لبنان ، وهجمت عليها برًّا وبحرًا وجوًّا ، و دمّرت معظمَ مكتسباتها ومنشآتها وبناها التحتية من الشوارع الرئيسة والجسور والمباني الهامة بحجة أن «حزب الله» أسرت جنديين لها . ولاتزال مُوَاصِلَةً لعدوانها الذي طالَ معظمَ المؤسّسات ، وفَصَلَ بعضَ المناطق عن بعضها ، وقَتَلَ كثيرًا من المدنيين الأبرياء ، وصَعُبَ التواصل مع السكان الذين حُرِمُوا وسائلَ الحياة من ماء وغذاء ودواء وكساء. حتى وَصَفَ وزيرُ الخارجية اللبناني الحربَ الإسرائيليةَ حربًا مفتوحةً . وكالمتوقع لم تقل أمريكا بهذا الشأن سوى الوصية التي وَجَّهَتْها إلى إسرائيلَ قائلة : ينبغي أن تراعي أن لاتتفاقم الخسائرُ في لبنان وأن تمارس حقَّها في الدفاع عن نفسها .

*  *  *

       والذي يدعو للعجب أن الزعماء الفلسطينيين العلمانيين من حركة «فتح» ظلّوا ولايزالون متواطئين في هذا العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة مع إسرائيل ، فلم تصنعوا شيئًا للدفاع عن إخوانهم الحماسيين وغيرهم من عامّة الفلسطينيين ؛ لأنهم حريصون على الكراسيّ ، ويودّون أن تسقط حماس المُنْتَخَبَة بطريقة شرعية، فيخلو لهم الجوّ ، ويعتلوا الكراسيّ ، ويسيروا بقضية فلسطين كالعادة إلى طريق مظلم مسدود عن طريق التفاوض السلامي المُمِلّ الفارغ مع إسرائيل ، وعن طريق الخضوع لإملاءات أمريكا وإسرائيل ، مع التعامي عن جميع التضحيات التي قدَّمها الفلسطينيون عبر هذه السنوات الطويلة ولايزالون يقدِّمونها .

       إن قضية فلسطين عادت اليوم في منعطف تاريخي خطير . والأيامُ القادمة ستكشف عما إذا أراد الشعب الفلسطيني الصامد المثابر المضيَّ قدمًا في طريق المقاومة المشرفة المؤدية إلى الفوز بحق تقرير المصير، والاستقلال الصادق ، والانتصار النهائي ، واستعادة الأراضي المغصوبة ، واسترداد الحقوق المسلوبة ، أو إذا ارتاح إلى عَلْمَنَة القضية، فإجهازها، فالاستسلام للعدوّ ، والرضى بالذبح الجماعي ، والانتحار القوميّ . ولن تتحقق إلاّ مشيئة الله ، وهو الفعّال لمايريد . «وَاللهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِه ولـٰـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُوْنَ» (يوسف/21)

 

(تحريرًا في الساعة 12من هجيرة يوم الأحد: 19/جمادى الثانيةالمتخللة بين الثلاثاء والأربعاءفكر والتعبير لابحسنه إلاّ الغرب المتكرّ المتنكّر لكل فضيلة وقيمة لدى الشرق ولاسيما المسل 1427هـ = 16/ يوليو 2006م)

نور عالم خليل الأميني

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1427هـ = سبتمبر 2006م ، العـدد : 8 ، السنـة : 30.